top of page

بين الوحدة والتقسيم ، فدرلة العراق سيف ذو حدين، طاهر البكاء



وضعت الحرب والاحتلال 2003 وقرارات الحاكم المدني الأمريكي العراق على مفترق طريق بين وحدة راسخة قائمة على التراضي والتكامل، وبين التقسيم، الذي يعني تفكك جغرافية البلد، على وفق مقاييس تتناقض مع المنهج الديمقراطي في التغيير، ذلك لإنه تقسيم ذو بنيات تقوم على التمييز القومي والطائفي.

فإلى إي طريق تتجه سفينة العراق الآن؟، وما هي النتائج المترتبة محلياً وإقليمياً ودولياً في الحالتين؟.

للإجابة عن ذلك، لابد من العودة إلى حقب مضت، لكنها ما برحت مؤثرة في تشكـّل الإطار الإداري للبلد.

ومن نظرة سريعة إلى تلك المتغيرات الجذرية التي مرّت بالعراق، يمكن أنْ نؤكد أنه فقد وحدته، ودوره المؤثر، قبل سقوط بغداد على يد المغول 1258م، وعندما أصبح تحت السيطرة العثمانية قسم إلى ثلاثة ولايات هي البصرة وبغداد والموصل.

وقد استمر هذا التقسيم حتى قامت سلطات الاحتلال البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى (1914 - 1917) بتوحيد تلك الولايات في دولة واحدة اسمها العراق بحدودها المعاصرة، وكان بإمكانها أن تشكل أكثر من دولة فيه، لكن مصالحها - كما نظن - اقتضت أن تأخذ بوحدة العراق لا بإبقاء تقسيمه العثماني.

وبسبب إخفاق النظام العراقي السابق في تأسيس هوية وطنية عراقية جامعة، تستوعب التنوع العراقي قومياً ومذهبياً، ظلت الوحدة العراقية هشة ومهددة وغير مستقرة، وحدث ذلك بسبب النزعة القومية الاستقلالية لدى الكرد، وضيق أفق الفكرة القومية العربية، وتعثر الحكومات العربية المتعاقبة في برامج دعوتها لتطبيق (الوحدة العربية) التي سعت على الدوام إلى صهر الآخرين في مشروعها، ومنهم الكرد، بدلاً من التكامل معهم، وكانت الحصيلة عواقب وخيمة، أجرتْ أنهاراً من الدماء وأهدرت ما يوازي فعلاً جبالاً من الأموال في محاولاتها الفاشلة لفرض التوحد القسري.

أما بعد الاحتلال الأمريكي، وما أعقبه مباشرة من (مناخ ديمقراطي مشفوع بفوضى لا سيطرة عليها) فقد أتيح للتنوعات الإثنية العراقية أن تبرز على السطح بقوة ، وتعبر عن نفسها بحرية كاملة (ينقصها ما يجعل بروزها موضوعياً وله بعداه الحضاري والإنساني)، وأسهمت سياسة الاحتلال بشرعنتها المحاصصات القومية والطائفية في إعطاء هذه الجماعات الإثنية، شحنات لم تكن هي أصلاً قادرة على تحمّلها، وبهذا أصبحت المحاصصات واقع حال من الصعب أو المستحيل تجاوزه، وبخاصة بعد أن أقر الدستور النظام الفدرالي شكلاً للعراق الجديد.

بإقرار الفدرالية ضمن الكرد دستورياً ما حصلوا عليه بتضحياتهم الكبيرة، وهم يسعون الآن الى استكماله، بضم مناطق أخرى إليه، ويلعبون أدواراً محورية مؤثرة في رسم مستقبل العراق وسياسته، ولم يعد هناك شك في أنهم يناضلون من أجل حق تقرير المصير، إلا إنهم ليسوا في عجلة من أمرهم، إذ إن الظروف الإقليمية والدولية غير مؤاتية لإعلان دولتهم. إنّهم يرون - وهم مصيبون في اعتقادي- أنّ تمسكهم بالوحدة العراقية الآن سيصب في مصلحتهم إن عاجلاً أم آجلاً، وأنّ منهجهم السياسي هذا يشكل لهم غطاء قانونياً يحميهم من سياسات دول الجوار المعادية لهم، أو لنقل الرافضة لقيام دولة كردية في المنطقة. وهذا الأمر تنظر إليه كل من تركيا وإيران وسوريا بعين واحدة وبمخاوف تكاد تكون متشابهة.

وإذا تعاملنا مع إقليم كردستان كحالة خاصة، لها مسوّغاتها التي يمكن أن يتفهمها العراقيون أنفسهم، فهل سيكون الباقي من أرض العراق إقليماً ثانياً، يضمّ العرب الذين يشكلون فيه أكثرية مطلقة؟ وبهذا نؤسس نظاماً فدرالياً على أسس قومية. إنّ حلاً كهذا يكون ممكناً، فقط لو أن عرب العراق موحدو النظرة سياسياً، لكنهم ليسوا كذلك.

انقسم عرب العراق بعد الاحتلال، سياسياً، طبقاً لمعيار مذهبي، فالسنة الذين فقدوا الحكم بسقوط نظام صدام، وجدوا في (المقاومة) ضد الاحتلال ومن تعامل معه أسلوباً لاستعادة ما فقدوه، ولفرض أنفسهم رقماً صعباً في المعادلة، متمسكين بموازنة موروثة اعتادوها و نشأوا عليها، رافضين بذلك فكرة الفدرالية، عازفين على وتر عروبة العراق، مستمدين الدعم المادي والمعنوي واللوجستي من المحيط العربي، الذي لم يكتم خشيته - بشكل أو بآخر- من هيمنة الشيعة على السلطة، بذريعة أنّ سياساتهم تأتمر بما يردها من إيران، وهي مسألة يرفضها عموم أبناء الشيعة في العراق، بافتراض أنّ هناك أحزاباً، تتلقى تعليماتها من إيران، ومثل هذه التهمة توجه إليها يومياً، عبر وسائل الإعلام المختلفة، ويجب أن لا توجه للشيعة بشكل عام .

على الطرف الأخر، وجد شيعة العراق أنفسهم فجأة خارج هيمنة المعادلة السابقة، فانطلقت أحزابهم الدينية، بسياسات ومواقف، هم يصفونها بأنها مستوعبة لدرس، ما جرى في أعقاب الثورة العراقية الشعبية سنة 1920، التي قاومت الاحتلال البريطاني، ومن ثم درس 1921 يوم أحجموا عن المشاركة في أول حكومة عراقية، يرعاها ملك عربي خاضع لمشيئة الاحتلال. فاختاروا هذه المرة التعامل مع الاحتلال كأمر واقع، هادفين إلى تثبيت حقوقهم والتخلص من مظلومية تاريخية، متقاطعين - في هذا - مع التجمعات والأحزاب السنية في المنطقة الغربية، ووجدوا في الفدرالية ضمانة حقيقية لإلغاء معادلة الحكم السابقة، وعدّوها جداراً حائلاً دون عودة الدكتاتورية والتسلط. وبدا هذا التشكـّل السياسي الجديد، لدى المراقبين السياسيين في العراق، بصورة أنّ الأمريكان اختاروا الاعتماد على الشيعة بعكس البريطانيين الذين اختاروا الاعتماد على السنة.

هكذا أصبحت الفدرالية تحظى بقبول أكثر من 75 % من الأحزاب العراقية العاملة على الساحة الآن، غيران كيفية قيام الأقاليم حجماً ونوعاً، هي التي ستقود إلى الوحدة أو التقسيم، فكيف يكون ذلك؟


أولاً: الفدرالية عاملاً للتجزئة:

يمكن أن تكون الفدرالية بمثابة رصاصة الرحمة على الجسد العراقي المثخن بالجراح القديمة والحديثة، إذا ما انشئت الأقاليم على أسس مذهبية، إي أن يكون الجنوب والوسط إقليماً واحداً له صبغة مذهبية شيعية، والغرب إقليم بصبغة سنية، وتكون كردستان كحالة خاصة إقليماً متشكلاً على أساس قومي، بينما تبقى بغداد إقليما موزائيكياً كونها العاصمة الفدرالية.

إن هذا التقسيم سيؤجج مشاعر الطائفية والعنصرية أكثر مما هي عليها الآن، وسيؤدي إلى صراع دموي مرير، ويسفر بالتأكيد عن عمليات تهجير قسري، وهي تجري الآن فعلاً، وتكتوي بنارها ألوف العوائل من جميع الأطراف ولا سيما الشيعة والسنة، وسيتركز هذا الصراع بدرجة أساسية في البصرة وبغداد و ديالى والحلة وصلاح الدين والموصل وجزء من الانبار، وطبقاً لمعايير طائفية محضة، يرفضها الناس وفيهم من يمارسها، ويرفضها السياسيون بألسنتهم وتصريحاتهم وفيهم أيضاً من يمارسها، ويفتي رجال الدين بحرمتها وفيهم كذلك من يمارسها.

ومن جانب آخر فإن الصراع سيتركز في كركوك وجزء من الموصل وديالى على أسس قومية بين العرب والتركمان من جهة والكرد من جهة أخرى .

تعمل على تنفيذ هذا السيناريو قوى محلية عراقية مدعومة من الجوار العربي والإقليمي، فضلاً عن مخابرات إقليمية ودولية اقتضت مصالحها ذلك، أو إن بعضها يعمل على إفشال المشروع الأمريكي في المنطقة.

إن السيرفي طريق هذا الخيار، يُعدّ فشلاً وهزيمة للمشروع الهادف إلى تغيير واقع الشرق الأوسط، بنشر الديمقراطية فيه. لأن تجزئة العراق قومياً ومذهبياً، تكتنفها ظاهرة العمليات الإجرامية التكفيرية الدموية، ستجعل حكومات الإقليم المحيطة بالعراق وشعوبها، تتمسك بالأنظمة القائمة كمرحلة أولى، على الرغم من سياساتها التسلطية، وما يغشى علاقاتها بشعوبها من سوء يصل أحياناً في مستوى فظاعته إلى ما كان يمارسه صدام من دكتاتورية قمعية خنقية إسكاتية.

إن تداعيات المشهد العراقي ستجعل شعوب المنطقة، تكفر بالأنموذج الديمقراطي الذي يراد تطبيقه في العراق لفداحة ثمنه، وهذا كله سيؤدي في المرحلة الثانية إلى انتعاش التطرف الديني الراديكالي، مستفيداً من حالة الإحباط التي ستعم المنطقة، مع أنها محبطة أساساً، وسينتشر الإرهاب في الإقليم وغيره، ويتحول العراق إلى كانتونات تسيطر عليها أحزاب غير ديمقراطية، تفرض دكتاتوريتها الدينية أو القومية، وعندها لا يجد التيار الليبرالي في أي من الأقاليم فرصة قريبة للنمو.


ثانياً: الفدرالية عاملاً للتوحيد:

يمكن أن تكون الفدرالية عاملا لتوحيد العراق مثلما هي في أمريكا وكندا وألمانيا والهند والإمارات العربية المتحدة وغيرها، فيما لو شكلت الأقاليم على أسس إدارية جغرافية وليس على أسس مذهبية طائفية عنصرية، فتكون كل محافظة إقليم قائم بذاته في هذه المرحلة ، وعند انتقال الوطن إلى وضع طبيعي من الممكن أن تشكل كل ثلاث محافظات كحد أعلى إقليما اكبر فيكون الجنوب والوسط ثلاثة أقاليم والغرب إقليما، وتكون كركوك إقليماً قائماً بذاته لخصوصيتها القومية، فضلاً عن إقليم بغداد العاصمة الفدرالية و كردستان بطبيعة الحال.

إن هذا التقسيم الفدرالي، سيحظى بتأييد العرب السنة بجميع أطيافهم السياسية والدينية ويُدخل الطمأنينة في نفوسهم، ولا شك في أنه سيقضي على هواجس الشيعة بجميع أطيافهم، ويريحهم من تخوفات عودة الدكتاتورية، بل وينهي إلى الأبد قيام حكم مركزي يمارس العنف السلطوي في الداخل ضد الشعب العراقي، ومن جانب آخر يثير مخاوف شتى لدى دول الجوار، وربما يطلق عملية تنمية اقتصادية متسارعة، ترافقها سياسة عادلة في توزيع الثروات الطبيعية بين الأقاليم على أساس الكثافة السكانية. عندها سيتوحد العراق فدرالياً، وستنشأ هوية عراقية وطنية تجمع العراقيين كلهم، عند خط شروع واحد، ولا يستبعد أن يكون الكرد في نهاية المطاف أكثر تمسكاً بالوحدة العراقية.

ولهذا الأنموذج نتائج إقليمية ايجابية كبيرة، إذ سيكون الأنموذج الفدرالي الديمقراطي العراقي بؤرة إشعاع لشعوب الجوار، وعاملا محرِّكا لها، يتحول إلى كرة ثلج تكبر مع تدحرجها الطبيعي، وحينئذ فقط تتحوّل سياسة أمريكا لإنشاء الديمقراطية في العراق إلى ظاهرة إشعاع تبهر شعوب الإقليم برمته، وتغريها بالديمقراطية والفدرالية وبسياسات الانفتاح على العالم، وتقضي - في الوقت نفسه- على الأنظمة المركزية، ذلك لأن التجربة العراقية، ستكون المثال النامي المتطور الماثل أمام أنظارهم.

إن نجاح هذا النموذج، سيكون أقل كلفة وأدنى في الخسائر من الذي سبقه، وسيفتح الطريق واسعاً أمام القوى الليبرالية في العراق من اجل ترسيخ الديمقراطية التي يفتقدها الشرق.





Tahir Albakaa
Historian
bottom of page